فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها، لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء أنه الذي يلزمه اللازم الفلانيّ، فهذا المذكور، إما أن يكون معرّفًا لمجرد كونه أمرًا ما يلزمه ذلك اللازم. أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزوميّة والأول محال. لأن كونه أمرًا يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفًا. فلو كان المشكوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معرفًا لنفسه، وهو محال. والثاني محال، لأن العلم بأنه أمر ما، يلزمه اللازم الفلانيّ، لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزمة، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية. فثبت أن التعريف بالوصف الخارجيّ، لا يفيد معرفة نفْس الحقيقة فلم يكن كونه ربًّا للسموات والأرض وما بينهما جوابًا عن قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} فأجاب موسى عليه السلام بأن قال: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض، إلى التعريف بكونه تعالى خالقًا لنا ولآبائنا. وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات والأرضين، واجبة لذواتها، فهي غنية عن الخالق والمؤثر. ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده، كونهم واجبين لذواتهم. لما أن المشاهدة دلت على أنهم وجودوا بعد العدم، ثم عدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبًا لذاته. وما لم يكن واجبًا لذاته، استحال وجوده إلا لمؤثر. فكان التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول، إليه. فقال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} يعني المقصود من سؤال ما طلب الماهية، وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعى الرسالة مجنون، لا يفهم السؤال فضلًا عن أن يجيب عنه.
فقال موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب، لا يتم إلا بتدبير مدبر، وأما قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} فكأنه عليه السلام قال: إن كنت من العقلاء، عرفت أنه لا جواب عن سؤالك، إلا ما ذكرت، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته. وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته. فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته. وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته، فقد ثبت أن كل من كان عاقلًا، يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته.
ثم قال الرازيّ: وقد بينا في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي، هي غير معقولة للبشر. انتهى.
وقال الإمام ابن حزم في المِلَل والنِّحَل في الكلام في المائية: ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له. وذهب أهل السنة وضرار بن عَمْرو، إلى أن لله تعالى مائية. قال ضرار: لا يعلمها غيره. قال ابن حزم: والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق، أن له مائية هي إنيّته نفسها، وإنه لا جواب لمن سأل: ما هو البارئ، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام؛ إذ سأله فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}؟ ونقول أنه لا جواب هاهنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام. لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه. ولو لم يكن جوابًا صحيحًا تامًّا لا نقص فيه، لما حمده الله تعالى.
ثم قال: هاهنا نقف ولا نعلم أكثر. ولا هاهنا أيضًا شيء غير هذا، إلا ما علمنا ربنا تعالى، من سائر أسمائه، كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمين وسائر أسمائه.
قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (110)، إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفيّ عن الله عزّ وجلّ، وواجب في غيره، لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما دونه تعالى، ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له. فصح يقينًا أننا نعلم الله عزّ وجلّ حقًّا، ولا نحيط به علمًا. انتهى ملخصًا.
ولما سمع فرعون تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة، وشاهد شدة حزم موسى عليه السلام وقوة عزمه على دعوته، عدل عن خطة الإنصاف إلى الاعتساف، بقوله: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)}.
لما لم يَرُجْ تهويله على موسى عليه السلام وعلم أنه غير مقلع عن دعوته تنفيذًا لما أمره الله ثنّى عنان جداله إلى تلك الدعوة فاستفهم عن حقيقة ربّ العالمين الذي ذكر موسى وهارون أنهما مُرسَلان منه إذ قالا: {إنا رسولُ ربّ العالمين} [الشعراء: 16] وإظهار اسم فرعون مع أن طريقة حكاية المقاولات والمحاورة يكتفى فيها بضمير القائلين بطريقة قال قال، أو قال فقال، فعدل عن تلك الطريقة إلى إظهار اسمه لإيضاح صاحب هذه المقالة لبعد ما بين قوله هذا وقوله الآخر.
والواو عاطفة هذا الاستفهام على الاستفهام الأول الذي وقع كلام موسى فاصلًا بينه وبين ما عطف عليه.
وحرف {ما} الغالب فيه أن يكون للسؤال عن حقيقة الاسم بعده التي تميزه عن غيره، ولذلك يسأل بها عن تعيين القبيلة، ففي حديث الوفود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: {مَا أنتم} ففرعون سأل موسى عليه السلام تبيين حقيقة هذا الذي وصفه بأنه {رب العالمين} [الشعراء: 16]، فقد كانت عقائد القبط تثبت آلهة متفرقة قد اقتسمت التصرف في عناصر هذا العالم وأجناس الموجودات، وتلك العناصر هي العالمون ولا يدينون بإله واحد، فإنّ تعدد الآلهة المتصرفة ينافي وحدانية التصرف، فلما سمع فرعون من كلام موسى إثبات ربّ العالمين قَرع سمعه بما لم يألفه من قبل لاقتضائه إثبات إله واحد وانتفاء الإلهية عن الآلهة المعروفة عندهم، على أنهم كانوا يزعمون أن فرعون هو المجتبَى من الآلهة ليكون مَلِكَ مصر.
فهو مظهر الآلهة الأخرى في تدبير المملكة {قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} [الزخرف: 51].
وبهذا الانتساب إلى الآلهة وتمثيله إرادتهم في الأرض كان فرعون يُدعَى إلهًا.
وقد كانت الأمم يومئذ في غفلة عما عدا أنفسها فكانوا لا يفكرون في مختلف أحوال الأمم وعوائد البشر.
ولا تشعر كل أمة إلا بنفسها وخصائصها من آلهتها وملوكها فكان المَلِك لا يُشيع في أمته غيرَ قوته وانتصاره على الثائرين، ويخيل للناس أن العالم منحصر في تلك الرقعة من الأرض.
فلا تجد في آثار القبط صورًا للأمم غير صور القبائل الذين يغزوهم فرعون ويأتي بأسراهم في الأغلال والسلاسل خاضعين عابدين حتى يخيّل لقومه أنه لما غلب أولئك فقد كان قهارَ البشر كلهم، ويُخفي أخبار انكساره إلا إذا لحقه غلب عظيم من أمة كبرى بحيث لا يستطيع إخفاءه، فحينئذ ينتقل أسلوب التاريخ عندهم وتنتَحِل الدولةُ الجديدة أساليبَ الدولة الماضية وتنسى حوادث الماضي وتغلب على مخيلاتهم الحالة الحاضرة، وللدعاة والمروجين أثر كبير في ذلك.
وبهذا يتضح باعث فرعون على هذا السؤال الذي ألقاه على موسى، وهو استفهام مشوب بتعجب وإنكار على طريق الكناية.
ومن دقائق هذه المجادلة أن الاستفسار مقدَّم في المناظرات، ولذلك ابتدأ فرعون بالسؤال عن حقيقة الذي أرسلَ موسى عليه السلام.
وكان جواب موسى عليه السلام بيانًا لحقيقة ربّ العالمين بما يصيِّر وصفَه بربّ العالمين نصًا لا يحتمل غير ما أراده من ظاهره، فأتى بشرح اللفظ بما هو تفصيل لمعناه، إذ قال: {رب السموات والأرض وما بينهما}، فبذكر السموات والأرض وبعموم ما بينهما حصل بيان حقيقة المسئول عنه ب {ما} ومرجع هذا البيان إلى أنه تعريف لحقيقة الربّ بخصائصها لأن ذلك غاية ما تصل إليه العقول في معرفة الله أن يُعرَف بآثار خلقه، فهو تعريف رسمي في الاصطلاح المنطقي.
وانتظم السؤال والجواب على طريقة السؤال بكلمة {ما} عن الجنس.
وهو جار على الوجه الأول من وجوه ثلاثة في تقرير السؤال والجواب من كلام الكشاف، وهو أيضًا مختار السكاكي في قانون الطلب من كتاب المفتاح، وطابق الجوابُ السؤالَ تمام المطابقة.
وأشار صاحب الكشاف وصرَّح صاحب المفتاح بأن جواب موسى بما يبيِّن حقيقةَ {رب العالمين} تضمن تنبيهًا على أن الاستدلال على ثَبات الخالق الواحد يحصل بالنظر في السماوات والأرض وما بينهما نظرًا يؤدي إلى العلم بحقيقة الربّ الواحد الممتازة عن حقائق المخلوقات.
ولهذا أتبع بيانه بقوله: {إن كنتم موقنين}، أي إن كنتم مستعدين للإيقان طالبين لمعرفة الحقائق غير مكابرين.
وسُمي العلم بذلك إيقانًا لأن شأن اليقين بأن خالق السموات والأرض وما بينهما هو الإله لا يشاركه غيره.
وضمير الجمع في {كُنتم موقنين} مراد به جميعُ حاضري مجلس فرعون، أراد موسى تشريكهم في الدعوة تقصيًا لكمال الدعوة وأن مؤاخذة القائل لا تقع إلا بعد اتضاح مراده من مقاله إذ لا يؤاخذ بالمجملات.
ومن هذا قال سحنون فيمن صدر منه قول أو فعل يستلزم كفرًا: إنه يحضر ويوقف على لازم قوله فإن فهمه والتزم ما يلزمه حينئذ يعتبر مرتدًّا ويستتاب ثلاثة أيام بعد ذلك.
{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)}.
أعرض فرعون عن خطاب موسى واستثار نفوس الملأ من حوله وهم أهل مجلسه فاستفهمهم استفهام تعجب من حالهم كيف لم يستمعوا ما قاله موسى فنزلهم منزلة من لم يستمعه تهييجًا لنفوسهم كي لا تتمكن منهم حجة موسى، فسلط الاستفهام على نفي استماعهم كما تقدم.
وهذا التعجب من حال استماعهم وسكوتهم يقتضي التعجب من كلام موسى بطريق فحوى الخطاب فهو كناية عن تعجب آخر.
ومرجع التعجبين أن إثبات ربّ واحد لجميع المخلوقات منكر عند فرعون لأنه كان مشركًا فيرى توحيد الإله لا يصح السكوت عليه، ولكون خطاب فرعون لمن حوله يتضمن جوابًا عن كلام موسى حكي كلام فرعون بالصيغة التي اعتيدت في القرآن حكايةُ المقاولات بها، كما تقدم غير مرة، كأنه يجيب موسى عن كلامه.
{قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)}.
كلام موسى هذا في معرض الجواب عن تعجب فرعون من سكوت من حوله فلذلك كانت حكايته قوله على الطريقة التي تحكى بها المقاولات.
ولما كان في كلام فرعون إعراض عن مخاطبة موسى إذ تجاوزه إلى مخاطبة من حوله، وجَّه موسى خطابه إلى جميعهم، وإذ رأى موسى أنهم جميعًا لم يهتدوا إلى الاقتناع بالاستدلال على خلق الله العوالم الذي ابتدأ به هو أوسع دلالةٍ على وجود الله تعالى ووحدانيته إذ في كل شيء مما في السموات والأرض وما بينهما آية تدل على أنه واحد، فنزل بهم إلى الاستدلال بأنفسهم وبآبائهم إذ أوجدهم الله بعد العدم ثم أعدم آباءهم بعد وجودهم؛ لأن أحوال أنفسهم وآبائهم أقرب إليهم وأيسر استدلالًا على خالقهم، فالاستدلال الأول يمتاز بالعموم، والاستدلال الثاني يمتاز بالقرب من الضرورة، فإن كثيرًا من العقلاء توهموا السموات قديمة واجبة الوجود، فأما آباؤهم فكثير من السامعين شهدوا انعدام كثير من آبائهم بالموت، وكفى به دليلًا على انتفاء القِدم الدالِّ على انتفاء الإلهية.
وشمل عموم الآباء بإضافته إلى الضمير وبوصفه بالأوَّلِين بعضَ من يزعمونهم في مرتبة الآلهة مثل الفراعنة القدماء الملقّبين عندهم بأبناء الشَّمس، والشمس معدودة في الآلهة ويمثلها الصنم آمون رع.
والربّ: الخالق والسيد بموجب الخالقية.
{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)}.
احتدّ فرعون لما ذكر موسى ما يشمل آباءَه المقدّسين بذكر يخرجهم من صفة الإلهية زاعمًا أن هذا يخالف العقل بالضرورة فلا يصدر إلا من مختل الإدراك، وكأنه رأى أن الاستدلال بخالقيتهم وخالقية آبائهم عبث لأن فرعون وملأه يرون تكوين الآدمي بالتولد وهم لا يحسبون التكوين الدال على الخالقية إلا التكوينَ بالطفرة دون التدريج بناء على أن الأشياء المعتادة لا تتفطن إلى دقائقها العقول الساذجة، فهم يحسبون تكوين الفرخ من البيضة أقل من تكوين الرعْد، وأن تكوين دودة القز أدل على الخالق من تكوين الآدمي مع أنه ليس كذلك؛ فلذلك زعم أن ادعاء دلالة تكوين الآباء والأبناء ودلالة فناء الآباء على ثبوت الإله الواحد ربّ الآباء والأبناء ضربًا من الجنون إذ هو تكوين لم يشهدوا دقائقه، والمعروف المألوف ولادة الأجنة وموت الأمْوات.